الشيخ عمر عبد الرحمن.. شريك الثورة
خالد الشريف
عبر الهاتف ومنذ 15 عامًا جاءني صوت الشيخ الأسير قويًّا هادرًا، لم ينلْ سجن أمريكا من عزيمته وهمته العالية، ليقول لي أنه فر بدينه من مصر ليجوب العالم داعيًا، فقد عاهد ربه ألا يسكت عن ظلم ولا يهادن حاكمًا جائرًا.. مؤكدًا أن مبارك وزبانيته هم الذين بذروا الإرهاب والعنف في مصر، ومبارك هو المسئول الأول عن تدفق بحار الدم بين أبناء الوطن.. إنه الشيخ عمر عبد الرحمن، ابن تيمية الزمان، أكثر علماء الإسلام شجاعة وجسارة في الوقوف أمام طغيان مبارك ونظامه الفاشي، والذي شرفت بلقائه عشرات المرات، عرفته شيخًا صابرًا زاهدًا ورِعًا يقول الحق مدويًا، غير مبال بالعواقب والنتائج التي يدبِّرها الحاكم الطاغية، حتى إنه كان دائمًا ما يردد قول ابن تيمية: "ماذا ستفعلون بي؟ إن سجنتموني فسجني خلوةٌ بربي، وإن قتلتموني فقتلي شهادة" والشباب خلفَه يردِّدون وإن قتلوك عمر بن أحمد فإن الله يختار الشهيد.
طغيان بائد
كنت الصحفي الوحيد الذي حظي بحوار مع الشيخ وهو في سجنه بأمريكا، فكَّ الله أسرَه، ونشرت الحوار يومها بجريدة الحقيقة المصريَّة وسلام التركية وتناقلته العديد من الصحف الأجنبيَّة ووكالات الأنباء، وهو أمرٌ لم ينسَه لي جهاز أمن الدولة، والذي مارس طغيانه ضدي حتى قبيل الثورة المصريَّة المباركة.
وكان مما قاله الشيخ في الحوار "أنه جاء إلى أمريكا لا يحمل حقدًا ولا غلا، ولكن يحمل دعوة الإسلام التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين" ، لكن يبدو أن أمريكا -بلد الحريات- ضاقت ذرعًا بالشيخ ودعوته فأودعته غياهب السجون تقربًا لحليفها مبارك وللوبي الصهيوني الأمريكي، والذي خشي سحب البساط من تحت أقدامه بعد انتشار الإسلام بين أوساط الأمريكيين.
يوم خروج الشيخ
نتذكر اليوم الدكتور عمر عبد الرحمن وكلماته ومواقفه الشامخة ضد مبارك ونظامه المستبدّ الذي وقف عاجزًا أمام الشيخ، سجنوه وقدَّموه للمحاكمة عدة مرات، فنجَّاه الله من الإعدام وخرج من السجن ليدعو إلى ربه في المساجد، فضيَّقوا عليه الخناق، واعتقلوه مرات ومرات.. حاصروه في منزله وطاردوا تلاميذه واعتقلوا محبِّيه فلم يفلحوا، والشيخ كالجبل الشامخ والشباب حوله يرددون: "عمر عبد الرحمن يا مزلزل عرش الطغيان..بلغ عنا في كل مكان " فلم يجدوا بُدًّا من المهادنة فراحوا يتقربون منه ويهادنوه عن طريق وزير الداخليَّة عبد الحليم موسي فلم يفلحوا.. وقبل مغادرته مصر قال لي يومها: لن أرضى أن أنال حريتي والشباب يُعتقَل ويُطارَد ويُقتَل.. رافضًا مساومة النظام البائد.. ورحل الشيخ وقتها حاملا دعوتَه على كتفيه ، داعيًا إلى ربه ، يشارك إخوانه الجهاد في أفغانستان ويجوب البلدان والدول ليوقظ الأمَّة من سباتها لتعود إلى الإسلام وعزته، ولأن الحق أبلج والباطل لجلج ونصر الله قريب من المؤمنين، فهاهي دعوة الشيخ تنتصر على طغيان مبارك، رغم أنه غائب في سجون أمريكا ، نعم بعد عشرين عاماً نجحت الثورة المصريَّة التي جاءت بعد كفاح طويل شارك فيه شيوخ الحركة الإسلاميَّة على رأسهم الشيخ عمر عبد الرحمن، والذي وقف في وجه طغيان مبارك ونظامه، بل هو أول من كسر هيبة طغيانه وجبروته..
والغريب أن السلطات الأمريكيَّة منعت عائلة الشيخ من الاتصال به في سجنه عقب ثورة 25 يناير لمدة شهرين خشية تأثيره على الثورة، وهي لا تعرف أن الرجل هو أول من بدأ طريق الكفاح من أجل هذه الثورة وأول من مهَّد لها الطريق.
مطلب إنساني
لقد آن للشيخ الأسير أن ينال حريتَه ويستردّ كرامته بعد نجاح الثورة التي أشعل شرارتها وضحَّى من أجلها ، آنَ للشيخ الأسير أن يقضيَ ما بقي من عمره في وطنه عزيزًا بين أهله، لا سيَّما أنه تعرَّض للأهوال، حتى أنه قال: إن أفضل أيامه في السجون الأمريكيَّة كانت أشد بؤسًا من أسوأ أيامِه في السجون المصريَّة".
الشيخ يعاني من أمراض السكري والضغط وورم البنكرياس، بل إنه فقد الإحساس بأطرافه، فضلًا عن وضعه -وهو كفيف- في زنزانة انفراديَّة".
بل الأشد مرارةً هو تعرُّض الشيخ للضرب والتفتيش المهين بين الحين والآخر، حتى إنهم يجردونه من ملابسه ويعبثون بجسده، ناقلا عنه قوله: "أتمنى أن تبتلعني الأرض ولا أوضع في هذا الموقف".
والشيخ تعرَّض لمؤامرة ومكيدة دبَّرَتها المخابرات الفيدراليَّة عن طريق طرح أسئلة أجاب عنها الشيخ بتلقائية وهي لا تحمل أي إدانة، لكن حُوكم بسببها بقانون لم يحاكم به أحد في أمريكا منذ مائتي سنة، ورفضت المحكمة أدلَّة البراءة التي قدَّمها محاميه وزير العدل الأمريكي الأسبق رمزي كلارك، فحُكِم عليه بالسجن 350 عامًا".
من حق تلاميذ الشيخ اليوم أن يطالبوا بسرعة الإفراج عنه بموجب الاتفاقيَّات الدوليَّة أو بعفو صحي، وحسنًا فعل شيخ الأزهر بإطلاقه مبادرة إنسانيَّة للإفراج عن الشيخ عمر عبد الرحمن، باعتباره شيخًا أزهريًّا ضريرًا وطاعنًا في السن، لا يتحمَّل عذاب السجن في غربةٍ بعيدة، يترافق فيها عذاب السجن مع بُعد الأهل والأقارب وانقطاع الصلات بالزملاء والمعارف.
اللهم فكَّ أسر الشيخ عمر عبد الرحمن وردَّه إلى بلاده سالمًا غانمًا يا رب العالمين، "الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا" (الأحزاب: 39).